٨/٠٦/٢٠٠٥

بهارات هندو - أوربية

محمد عفيف الحسيني
(سوريا/ السويد)

الفلفل الأحمر المجفف
الفلفل الأحمر الذي يتوهج في دياربكر، تحت شمس دياربكر. يجف هذا الفلفل. فيصبح رهيفاً مثل شفرة المطهرين. المطهرون بحقائبهم الجلدية العتيقة، يجوبون بودرة القص، ويجوبون الأكياس النورانية ـ الشاش الأبيض، المشتراة من فرن "كاملو"، في عامودا، يلفون به بودرة الفلفل الأحمر، في نوروز، نوروز الذي يشم رائحة الظلام؛ الظلام الأرجواني، هناك.. في العيد الكبير، العيد الملفوف مثل مومياء، ومتبل بماء القهر.
أين تلك التوابل التي سهتْ عن روحها، وسهتْ عن نيرانها، وسهت عن سطوح دياربكر ـ المدينة التي تجفف منذ زمن بعيد، الفلفلَ الأحمرَ الحارقَ؟.
السمّاق
السماق والبقدونس والبصل، هي أخلاط النسيان، نسيان نعمة النحول، بنعمة النهم في ظهيرة نوروز على "كري موزا"؛ يأتي "جَتا"؛ مات جتا، الحلبي الحار، فجاء ابنه "حسّوني"، الذي كان أسيراً مثل سماق، عند إسرائيل، في حروب العرب الظافرة. جاء، الابن، اقتعد الابن عربة من الفحم اللئيم، وأسياخاً من زاوية النسيان، في مدينة التذكر "ماكوندو"، في طاسة من البافون ـ البافون معدن، وليس توابل ـ، طاسة عمياء نصف لون من فضة، ونصف لون من غبار الأسر. وضع الطاسة بجانب روحه، وفرم بصله، بصل السماق، بشفرة المطهرين. أضاف "الليموندز" المتجهم، القابض اللامع. أضاف البقدونس الكبير؛ باقة هائلة من البقدونس، وشوى على فحمه نوروزَ الكرد، نسي وضع الملح، أضاف الملحَ، آخرَ الليل، أولئك المالحون.
لم يكن ثمت من سمّاق، ولا أتحدث عن عربة "جتا" التي تبيع الكباب، بالسماق المطحون جيداً.
أتحدث عن الزائرين لمدينة "ماكوندو"، الذين قلبوا طاسة السماق، البافون، ومجد السماق ولعنة السماق، التي ذاقها الكرد في النوروز.
النعناع
جلبتُ، تلك السنة شتلة من النعناع ـ خصلة، عِرْقاً، جذراً، كتلة من الطين بشراشيب عجفاء. جلبتُ روح النعناع، من جارتي السويدية، على أرض صغيرة سويدية، مستأجرة، بمساحة لحية النبي نوح، عندما رستْ سفينته الخرافية على جبلي الخرافي "جودي". كان النبي المغامر، قد انتهى من فصل ورق النعناع عن عيدان النعناع، والتهم الأخضر المتفتح الرائحة، مع الأفخاذ المكتنزة للجراد، شوى تلك الأفخاذ على فحم عربة "جتا"؛ وكانت سفينته ترسو بالقرب من أنفاسي، حيث أكتب الآن، وأنا أعبر جبل جودي، إلى جبل الكمّون في نوروز، انتفخت فيه جثة ابن خالي، بعد يومين من نيران النعناع، نيران ما قبل نوروز، في ملعب، ماكوندو الكردي، حيث نبت النعناعُ اللجوجُ على شفة ابن خالي الشهيد، فلم يدعه أن ينام، تلك الليلة.
يمتد النعناع، يغرس برائحته إلى علكة السويديين. وإلى الأرض التي استأجرتها تلك السنة، وأتى الحلزون "البزّاق"، فقضم كل الأخضر النعناعي. البزاق المسائي المسلَّح في عامودا، قضم الباقة النورانية من رحيق الدَّيْنوريِّ ـ رحيقِ الكمّون.
النعناع المجفف، يُرش حفنةٌ منه على اللبن الكثيف ـ أو المجفف في شاشٍ من أكياس طحين فرن "كاملو" المتوهجة، المسحوب منه خيره. فيتحول النعناع إلى جفاف. يموت النعناع؛ في عامودا.
الكمون
تمر قطارات. تعبر قطارات. تتهادى قطارات ثقيلة، من شرفة غوتنبورغ، إلى شرفة السكاكين الرهيفة التي تخصي الأكباش:

1

يقوم الرعاة بإخصاء الأكباش، يضعون الخصيتين على حجر، وبمطرقة خشبية، تشبه مطارق الآلهة، يفجرون الخصيتين، تثغو الأكباش، يقوم الرعاة بوضع حفنة من الكمون على الجرح ـ جرح الأكباش الأليمة.

2

يخصي الرعاة الأكباش، بعضِّ الخصى، بأسنانهم الحادة، فيقطعون حبل الإحليل عن الفحولة الرعوية. ويرشون على أسنانهم حفنة من الكمون. ويرشق الرعاةُ بقرونهم الجبلية، قرونَ الأكباش القوية.

***

تمر قطارات، تحمل أكباشاً مخصية، ترتطم قرونها الوحشية بالحديد الوحشي.

***

القطار القادم من شمال السويد، يتثاقل، وهو يقترب مني، فترجّ حياتي في الساعة الخامسة المبكرة، وأنا النائم، أحلم بالكمون الساقط، سهواً، على نوروز التوابل الزعفران الحبة المباركة، والهال الذي يشبه الحشيش الأخضر.
أحلم بالسمسم.
القطار المنزلق من شمال السويد، والملوث بثلج عجلاته المدوِّمة، يسألني:
ـ هل عندكم الطيور، في النوروز؟.

***

طائر "التم"، الذي أراد أن يكون من جنس طائر البط البري؛ ظل طيلة الشهرين العجفاوين مثل جراد ميت، يعبر القنال، جوانياً وبرانياً، يضرب بغشاء روحه على غشاء روح البط، بعينيه الصغيرتين الذكيتين، ورقبته النحيلة الغبية، يراقب البط، ويراقبني، ـ هو وحيد ـ يراقب كتفي اليسرى المتألمة الثقيلة من التبغ، وهي تلامس كتف آخين ولات اليمنى الثقيلة، بسبب أنها تحلم بطائرنا، المشترك، الذي سيشبه، طائر السمسم.!!
الطائر، التم، الذي يحب حبات السمسم الصغيرة. ويحب المرور من الجسر، إلى النوروز. طائر التم. طائر يلتهم الكمون، مثلما يلتهم النوروز أبناءه من السمسم.
السمسم
سمسم الله، المبارك، العصير،
في خريف "تل عربيد"، كان مزارعو، تل عربيد، يبترون شجيرات السمسم الشيطانية من جذورها، بنصال مناجل فلاحية شيطانية، وينفضونها على الإسمنت، فيتساقط السمسم الصغير الماهر على الأرض، فيجتمع السمسم، الفشل، العذاب، النشط في التبعثر، بني بقشره، وأبيض على كعك قامشلو، وعلى نوروز كري موزا، الكعك الدائري الذي يشبه، رقبة طائر التم، مذبوحاً، وملتفاً مستقراً في طبق ذبيح، على رأس فقير كردي ـ الفقير الكردي، غير الهندي ـ، ينادي في نوروز كري موزا:
ـ "كعك طيب، كعك بـ سم. سم بلغة الكزبرة.
الكزبرة
باقة الكزبرة الخضراء، تشبه باقة النهايات، نهايات الحب، ونهايات المباريات، ونهايات البامياء، ونهايات نصال بورخس الأعمى؛ باقة الكزبرة حريفة ومغرقة في الوقت المعجم. الكزبرة الخضراء عابسة بشخصيتها الشبيهة بشخصية البقدونس النحيل،
ـ سأدلكم، يا أولادي إلى رحيقي.
رحيق الكزبرة، مجفف دائري، مخطط، حبات صغيرة صفراء منكوبة في الجرن، يطحنها بورخس، تفلت بعضها على أرض ماكوندو، تتطاير بعضها على نوروز؛ تعبٌ على وجه المسرحي المرتجل، على منصة نوروز المرتجلة، تعب على الحضور، تعب على السندويتشات المرتجلة دون كزبرة، فقط بضعة باقات من كزبرة خضراء، في سيارات خضراء، تراقب تعب الجمهور ومذاقات الجمهور لعيدهم المرشوش بالفلفل الأسود. وهج الفلفل الأسود، آه... ياوهج بوينس آيريس. يتأوه الشريف. وتتأوه الكزبرة على حضور مولاي الجزيري، يعبر قبور عامودا، وتعبره قبور عامودا، يعبر الصنوبر المائل على الفرنسيين المائلين في حنينهم إلى فرنسا، وهم المدفونون، تحت توابل ماكوندو، منذ نصف قرن.
الفلفل الأسود المطحون
قبر ملاي جزيري، في جزيرته، يهفهف قرميده، ويشهق حجره بماء الحياة ـ ماء التصوف، وماء الفلفل الأسود، الحب. تغمس آخين ولات، الفلفل الأسود المطحون على ذكرى قديمة ـ رأت في منامها الجزيري ـ، ذكرى تشبه أحلاماً، نبوءةً، نبوءة تشبهني، ونبوءة تشبه الطائر اللامع الذي يرتطم بمايكرفون نوروز عامودا؛ الطائر الذي ظن أن المسرحي المرتجل، هو طائر مثله، الذي يقدم عرضاً مرتجلاً عن "كاوا"، ظن الطائر أن المسرحي هو نديمه، فارتطم بالمسرحي؛ طائران على خشبة المسرح متبَّلان بالفلفل الأسود، ينهشهما جيب عسكري، سيارة جيب عسكرية، موحلة، تلوِّث التوابلَ بالوحل.
بهار هندي
Curry
الخلطة الهندية الشهيرة، التي يستخرجها الفقير الهندي ـ وهو غير فقير قامشلي ـ، من الكُرْكم.
الكركم، هو حجر أصفر مطحون، مع فلفل حار أو بارد، ومع جوز الطيب ومع الحلْبة ومع دارسين، ومع قرنفل ومع ظلال المطبخ، ومع نزق المطبخ للجائع، ومع الثوم ومع القلق ومع رقبة طائر التم المذبوح ـ لم يكن مذبوحاً، تجلَّد القنال، فهجره الطائر ـ ذبحه خيالي، عندما لم أعد أراه، أصفِّر له على الجسر، فيتهادى إليَّ، ويزعق.
أوزان البهار الهندي، الذي هو من فصيلة اللغة الكردية (الهندو أوربية):
نصف مقدار أزلي من الكركم، ونصف مقدار غير أزلي، من توابل ذَكَرها "جكرخوين"، في مجلده الضخم عن حياته الفائضة على صحن نوروز، في قامشلي، ذلك العام، عندما تهادى من ماء منفاه في ستوكهولم الذي جففه حجراً ميتاً أصفرَ، في حوش منزله القديم في الأزل.
نصفُ مقدار غاضب من الكركم، مع نصف مقدار فلفل دياربكر، باقة بقدونس، باقة السمسم، باقة السماق، باقة الكمون، باقة الكزبرة العجفاء، باقة الفلفل الأسود غير الأعجف، الممتلىء نعمة الحريق، وباقة من قلبي، إلى نوروز.

***

المقادير، هي مقادير الله في نوروز كرد الله.

***

كان الأوربيون قبل مئة عام، يحمّلون البغال، بسبائك صفراء من الذهب، ويبادلونها مع فقراء الهند ـ هم غير فقراء قامشلو ـ بالتراب الأصفر.
ذهبٌ مقايضةٌ؛
كركمٌ مقايضةٌ؛
وكان الأوربيون، على جمال صفراء، يدوِّنون، وهم يرشون على مائدتهم الكارِّي، أن كردستان يجب أن تتشظى، إلى جهات متشظية، فتشظت كردستان إلى جهات متشظية، يغطس في بحيرتها، طائري "التم"، يهز بذيله القصير اللامع، وهو يخرج منقاره من طمي القنال، يحمل بين منقاره، سمكة من بحيرة "وان".
ـ أهي سمكة؟
ـ ربما، لم تكن سمكة، ربما كان القنْصُ غير ذلك.
أردُّ، وأستدير.
كتفي اليسرى الثقيلة، بسبب التبغ، ترتطم هذه المرة بـ: ثمانية قطرميزات ـ قوارير، صغيرة، تستقر على الرف الثاني من منفايَ، الذي لايتوهج، في غوتنبورغ، وفي مطبخ غوتنبورغ، وأنا أكتب عن نوروز، فتتساقط القوارير الثمانية للذي يتوهج.

***

ـ "أين بورخس"؟
سأسأل طائري "التم". سيجيب طائري التم:
ـ ذهب إلى نوروز ماكوندو.

ترافق عماه، مرآة الكرد العمياء.

***

التوابل، هي الطيور. والطيور هي الرفرفة العمياء لحكاية المنفي. وهي بهارات منسية في مطبخ منسي على أرض منسية تحت سماء منسية.

غوتنبورغ ـ نوروز 2005

قطعةُ سكرٍ واحدة

فاطِمَـة ناعـُوت
(مصر)

كانت مَهمتي
أن أذيبَ لكَ السُّكرَ،
لكن عتمةَ السحاباتِ
وانكسارَ العصا في يدِ موسى
بدّلتِ المهامْ.

قطعةً واحدةْ
حتى يظلَّ المُرُّ مُرًّا
والنوارسُ نوارسَ
لا تخطئُها الأعينُ مع الملاكِ الصموتْ
الذي يهبطُ كلَّ مساءٍ
كي يمسحَ دموعَ البناتْ.

قليلاً من السُّكرِ
فمرارةُ القهوةِ ضرورةٌ
كمُعادلٍ موضوعيٍّ لكوميديا الأخطاءِ
وعبثِ العاشقين.

القهوةُ
لابد أن تكونَ في كوبٍ زجاجيّ.
الفناجينُ الخزفيةُ مريبةٌ
تحجبُ طبقاتِ لونِ البُنِّ
في قطاعِه الطوليّ.
اللونْ
الذي يحيلُني إلى أشياءَ طيبة
مثل صوتِ فيروزَ
حين تنادي عاقدَ الحاجبيْن
الذي عيناه العسليتانِ تستلبانِ ضوءَ الشمسْ
عندما تتخلى عن صلفِِها
وتحنو على العاشقيْن
تحت الصفصافةِ المشقوقة.

مرِّنْ يمناكَ
على مصافحةِ الفراشةِ
من دون أن تكسرَ رُسغَها،
تعلَّمْ أن تقرأَ الحزنَ في عينيها
وتحت طَيّةِ الجناحيْن
احذرْ وعيدَها
فللفراشةِ قانونٌ
لا يخلو من مُرٍّ
حتى ولو رفلتْ في الألوانْ.

الضرورةُ الشِّعريةُ
جعلتْكَ تشطبُ الياسمينةَ البيضاءْ
التي كانت تنمو على سورِ الحديقةِ كلَّ مساء
في غفلةٍ من سكّان البيتْ،
وجعلتِ الراقصةَ الخُلاسيةَ تدورُ دون توقّفْ
في دوائرَ ثابتةِ القُطر
ضاربةً صفحًا
عن قوى الطردِ
وآلامِ العصبْ،
قيودُ الخليلْ
أنبتتْ أجنحةً للهوى
فطار،
وبدّلتْ في المهامْ
فصارَ لزامًا عليكَ
أن تذيبَ السُّكرَ في كوبي
كتمرينٍ يوميّ
لكن المرارةَ كامنةْ،
ولزامًا عليّ
أن أنكفئَ على كثبِ الرملِ
في انتظارِ أن يمرَّ البحرُ.

للشِّعرِ ضرورةٌ
وللفرارِ أيضًا.


القاهرة / 5 يونيو 2005

����
���� ������