٨/٠٣/٢٠٠٥

يخرج من صورته

أكرم قطريب

الرجل في الصورة

لن يرحل

قبل أن يقصف عمر الظل

يكوي لحم البلاد بمحاسن العائلة

وملمس الدم

والكتب التي تمدح بلوغه التسعين

الرجل الذي يحملنا في ابتسامته

ورسائل البريد

ينحني على البيوت ومعطف التجاعيد

يبارك طريقتنا في المشي

وطوافنا حول تماثيل الأبناء

الرجل المقلوب كسلم

يصر كظهيرة كالحة

ممدودة فوق الوجوه

وتئن كصدقة الشحاذ

يخرج من صورته وينام وحيدا

شاعر سوري، نيويورك

خاص كيكا

قرَّبتُ الموجة إلى فمي

لويجا سورينتينو (*)

من الشعر الايطالي المعاصر

ترجمة: فوزي الدليمي
(العراق/ايطاليا)


الأيدي المزهرة

هنا اليقظة ليست بحاجة إلى حواجز
الشريان أكثر بطأ
ترتكن الرئتان
وفي الصدر يزدحم الوقت
ولا أذكر كم تبقي من الأبدية.

حملتُ البحرَ في عينيّ
مثل فنار عال، جسر
شفتاه في مادة الروح.

* * *

كالمجداف الذي يشق البحر
قرَّبتُ الموجة إلى فمي
باندفاع ذابت روحي في قلبها
كانت تُريد ابتلاعي.
امتدَّ الذراع عميقاً
ـ لو استطعت أن تكون موجوداً
بسرية أكثر.
إلي متى أمسكها من يدها،
إلي متى ؟

* * *

يجري النهر هناك
بإيقاع خفيف، روحي مياه،
مياه عميقة،
وبعيدة.
الطفلة تتشبَّث،
خطواتها سريعة
الجدران تدخلُ ،
غرفة كلها جدران.
لا أستطيع، لا أستطيع الإمساك به.
تتدفق مياه كثيرة
هناك في الأعالي،
طوال السنة.

* * *

هذه هي الغرفة
ثقيلة جداً

كنتُ أريد أن أفصل شرياني
وأُوسّع العناق.

* * *

جميل للغاية
يحيا مثل كتلة أنفاس
حتى الجنون.

أحشاؤه مغلقة
شفاه عظيمة مستعدّة.

سيدخل لحظة
بقبعة من الظلال.

* * *

ينمو فيك الأزرق
علي مسافة عدّة سنتيمترات من البحر
كالصدف الحيّ
المصاب.

انفصلت الروح.
وأنتَ تحتضن دمار الآخر
كنتَ تقول بحروف سوداء
الطفولة تقترب .
إنها العيون
في المدن الشاسعة.
غداً، ستهرول غداً
داخل العملاق، لكي يكبر.

* * *

الآن يتوجب عليه الرحيل،
عليه أن يترك التوافق
مبعثراً،
الجسد والرعشة،
وهو ينظر ثانية
إلى بحر هائج.
الغريب سيكون هناك،
سأسميه بؤبؤ العين،
أضرب الصدغ كي يذوب الحجر،
البكاء
نِدّي .

* * *

أي خوف تملّكني
وقد نجوت
أرى منحدراً رهيباً
اختفي فجأة،
اختفي.
الحياة التي أحببتها
برعمةٌ عتيقة
وردة صبية ترنو إلى الموت
لقد خانتنا الأحضان.


هاجس

ليلة أبدية
كأس من الرعشة
ـ أشعر أنني
الفراغ ـ
هناك
حيثُ كل واحد يصير وينتهي
أخذ معه الريح
الآن.

سيبصروننا
سوف لن نكون مثلهم
نحن لا رجعة لنا.

* لويجا سورينتينو
ولدت في مدينة نابولي جنوب ايطاليا، لها حضور متميز في بانوراما الشعر الايطالي المعاصر، إضافة إلى نشاطها الشعري تعمل في الصحافة وتعد وتقدم برامج ثقافية في التلفزيون الايطالي.


(من مجموعة ثمة أب)

القدس العربي

يوسف عبد لكي :
لا داعي لصنع ميلودراما من سنوات غربتي

يم مشهدي
(سوريا)

تحول افتتاح معرض يوسف عبد لكي الذي أقيم في خان أسعد باشا إلى تظاهره. غابت عنه المظاهر المعتادة عند افتتاح المعارض والتي تكون أشبه بحفلات الكوكتيل وحل محلها الاحتفال، احتفال بالعائد إلى دمشق. صخب ممزوج بالضحكات تدفق في جو عبق برائحة السبعينيات. في البداية كان يوسف هو الحدث، لكن لوحاته بدأت ببث إشارات للناس، فتجمعوا حولها محاولين الإصغاء إليها. رؤوس أسماك، فردة من حذاء، جماجم حيوانية،... كلها متقنة الأداء ومعروضة أمامك، فللأشياء عند عبد لكي معان جديدة وغريبة لأنها تسبح في فضاء جديد تتفاعل معه، فضاء قلق، مرعب، مجنون، متعب بسكونه المغلف لصرخات الاحتجاج، فضاء يأسرك بجمال تقديمه ويفزعك بمضمونه.

المستقبل التقت بالفنان عبد لكي وكانت هذه الدردشة من غيابه، حضوره، معرضه، حلمه وعن دمشق.

ريح منعشة

بعد كل هذه السنوات، وبالرغم من كل ما نقل لك من دلالات وإشارات عبر الأصدقاء وعبر وسائل الإعلام، هل وجدت متغيراً حقيقياً في دمشق وأهلها، هل ثمة ما أدهشك فيها، وهل هي ذات المدينة التي خرجت منها ذات يوم؟
ـ قطعاً دمشق تغيرت ولحسن الحظ أنها تغيرت، هذا بشكل أو بآخر دليل حياة فالمدن التي لا تتغير هي مدن غير واقعية، مدن ميتة، غير موجودة على خارطة الحياة. السؤال هو بأي اتجاه تغيرت هذه المدينة؟ على المستوى البصري هناك تغيرات كبيرة جداً لأن عدد سكان المدينة تضاعف تقريباً فأنشئت أحياء وضمت أحياء إلى المدينة القديمة وبالتالي أصبحت خارطتها الجغرافية والسكانية متغيرة، بالنسبة للأحياء الجديدة وعلى المستوى الخارجي أشعر أني غريب فيها تماماً لا أعرفها ولا أعرف السير فيها وحتى الأحياء التي كنت أعرفها في دمشق السابقة، بسبب التغيرات التي حدثت فيها كمد الجسور والأنفاق ـ تغيرت معالمها وتغيرت نقاط الاستدلال فيها، ما أثارني وأثار غيظي هو وجود حشد هائل من إعلانات الشوارع والطرقات والتي تتسم بالبشاعة وبقلة الذوق وتعد اعتداء على بصر الساكنين فيها. دمشق القديمة والتي هي اللب التاريخي للمدينة لم تتغير كثيراً وإن غزتها المطاعم السياحية وأضافت لها وجها استهلاكياً كان من الممكن تلافيه حفاظاً على هوية المدينة وعمارتها ونمط حياة ساكنيها كل هذه التغيرات ليست هي فعلاً ما يعنيني في العمق، ما يعنيني هو التغيرات التي حدثت على البشر، فقد وصلتني الكثير من الإشارات في السنوات السابقة على حالة اليأس والإحباط التي يعيشها المواطن عموماً ونخبة من المثقفين والسياسيين على وجه الخصوص لكن أظن أن التغيرات التي حدثت في العالم والمنطقة وسوريا في السنة الأخيرة على وجه الخصوص أثرت على هذه الصورة السلبية. لدي إحساس أن ريح مختلفة منعشة، تهب على البشر اليوم يتجرأون فيها على القول والتصريح بما كانوا يكتمونه ويكتم على قلوبهم. رأيت الكثير من المعتقلين السياسيين الذين قضوا في السجون فترات غير إنسانية وصلت أحياناً إلى ثلاثين عاماً، هؤلاء يفترض أن يخرجوا محطمين تماماً لكن ما حدث أنهم اليوم لديهم قدرة على التفكير والتفاؤل والمناقشة والنقد، قلوبهم اليوم بيضاء وأرواحهم عالية كل هذا يجعلني أرى أن المدينة كأنها تستعيد لبوسها القديم تستعيد شيئآً من روح السبعينات وريحها.

مرثية
لوحة في المعرض أثارت الاهتمام أكثر من غيرها هي "مرثية لجيل السبعينات" لماذا تلك القبضة المتينة مبتورة، هل هذا ما تشعر به إزاء أيامك النضالية، وما الذي بقي منها بعد كل تلك السنين؟
ـ أعتبر أن تلك اللوحة خارج سياق أعمال المعرض. وما أحببت قوله على المستوى الدلالي بهذه اللوحة له علاقة بكل التاريخ السياسي للسبعينات، فقد عشنا مرحلة استثنائية ليس فقط بسوريا أو المنطقة العربية بل أوسع من ذلك أتت من وجود تيار يساري غير سوفيتي يطرح على نفسه أسئلة واقعية ومهمات سياسية واجتماعية كبيرة كان جيل يمتلك زخم الحلم فانخرط في العمل السياسي والثقافي وقدم الكثير من التضحيات في سبيل ذلك، إلا أن السلطات العربية على السواء تعاملت مع هذا الجيل بوحشية وقمع غير محدود، وبالتالي دخلت نخبة من جيل كامل السجون أو أبعدت أو نفيت وأحياناً كثيرة أعدمت فيها، وأعتقد أن درجة الوحشية التي تعرّض لها ذاك الجيل تركت آثارها السلبية على الأجيال اللاحقة.


اللوحة هي بشكل أو بآخر تحية إلى هذا الجيل، جيل السبعينات لعمله الجبار المليء بقوة الروح ومرثية لإجهاض وقتل أحلامه.

إلى أي حد أفادك على الصعيد الفني بقاءك الطويل في فرنسا والى أي درجة أثر عليك على المستوى الشخصي والفني، وهل ساعدك على إيجاد موقع مميز على الخارطة التشكيلية خاصة والثقافية عامة، وبخاصة وبأنك كنت أحد المغضوب عليهم الذين غُيِّبُوا وحُوصروا معنوياً ومادياً؟
ـ إن وجود أي فنان في عاصمة غنية مثل باريس هو حظ من السماء، فكل الفئات التي تتعاطى مع الإنتاج الثقافي تستطيع أن تجد لها موطئ قدم فيها، باريس مدينة غير محدودة وغير مغلقة على نفسها أو على ثقافة محدودة. بالنسبة لي كرسام كان وجودي فيها عامل إغناء كبير لعملي، فقد أتاحت لي الإطلاع على عدد غير محدود من أعمال الفنانين الكلاسيكيين الأوروبيين والمعاصرين وهذه ميزة حقيقية أن أستطيع مشاهدة ما الذي يفعله رسامو ألمانيا وإسبانيا والعديد من الدول اليوم. وبالإضافة إلى ذلك استطعت متابعة أعمال فنية آتية من بلدان بعيدة ومن ثقافات أخرى ومن عصور مختلفة، مثل الرسم على ورق الرز الصيني أو أعمال الخزف المكسيكي ـ ما قبل كولومبوس ـ والأقنعة الإفريقية، إضافة إلى المنمنمات العربية والفارسية والهندية والمغولية، كل هذا كان لا يمكن ملامسته كما لا يمكن اكتشاف تقنيات الرسامين إلا بمشاهدة أعمالهم مباشرة، فأستطيع بذلك تلمس طريقة عمل الرسام، كيف يراكب طبقات اللون، وبأي لون يبدأ وبأي لون ولمسات ينهي العمل. على مستوى الإطلاع والمعرفة التقنية هناك فائدة لا تقدر بثمن. هذا على صعيد الحصيلة البصرية في هذه المدينة، لكن على المقلب الآخر، مقلب العمل، فما أن أدخل مرسمي حتى أنسى كل ما عانيته أقف عارياً أمام الساحة البيضاء، أحاول تثبيت تصوراتي أحاول أو أرسم أو أحفر ما يخاطبني، ويمتعني، هذا ما يهمني أما كل ما عدا ذلك لا يدخل في حساباتي وغير موجود على جدول أعمالي، إذا عرضت هذه القطعة أو لم تعرض، إذا لاقت استحساناً أو لم تلق، إذا حققت لي ربح مادي أو لا، كل هذا لا يعنيني وبشكل يقترب من الرومانسية والغباء.

لم أكن في أي يوم ممن يحبون الشكوى لذلك كل سنوات الغربة في فرنسا أعتبرها فترة في غاية الأهمية من حياتي ولا يوجد داعي لصنع ميلودراما منها.

هناك من يشير إلى أنه لم يكن هناك مانع من عودتك إلى سوريا وخاصة أنك أقمت معارض عدة في دمشق في الفترة الأخيرة؟

ـ أصبح اسمي مطلوباً منذ عام 1983وكان مجرد وصولي إلى أي نقطة حدودية يعني إلقاء القبض علي وكنت أقول في نفسي دائماً إن ساعة في سجن تدمر يمكن أن تنهك الروح والقلب أكثر من قرن في الغربة لذا بقيت مبعداً عن بلدي، هذا القرار ظل سارياً حتى عام 2001 حيث صدر قرار بتخفيض الإجراءات عن ما يقارب 250 مواطناً في الداخل والخارج حيث منحت جوازات السفر وألغي قرار إلقاء القبض فور الوصول على سوريا واستبدل باستدعاء لإجراء التحقيق. فالإجراءات أصبحت أخف لكن ذلك لا يعني إيقاف الملاحقات أو الزج بالمعتقل إذا رأى المحقق ذلك أو إحالتك على محكمة أمن الدولة إذا ارتأى ذلك، ولم يتجرأ الكثير على العودة إلى سوريا لأنهم يعرفون المكر الأسود لأجهزة الأمن السورية، لكن في الفترة الأخيرة أصبح قراري حاسماً بالعودة وفضلت أن أنهي كافة ارتباطاتي الفنية، أحببت أن أنجزها قبل أن آتي لأني لا أعرف ماذا سيحصل إثر وصولي، وبهذا فإن عودتي كانت بقرار شخصي وليس بالاتفاق مع أي جهة سياسية أو أمنية وأريد أن أذكر بأنني لم أتعرض للمضايقة لا في المطار ولا بعد ذلك وكما أنفي لقائي بأي مسؤول رداً على ما تردد لدى البعض.
هل كنت قلقاً ألا ترى بلدك مرة أخرى؟
ـ لم يساورني الشك لحظة واحدة من أنني سأعود وأني سأجد أصدقائي، وأعتقد أن هذا الإيمان غير المستند إلى أي معطيات بل متناقض مع المعطيات ـ على الأخص في الثمانينات والتسعينات ـ ساعدني مساعدة غير محدودة في الحفاظ على توازني وعلى مد عملي المضني بالإرادة المطلوبة لإنجازه. وهنا أود أن أقول أن إبقاء العديد من المواطنين السوريين في المنافي يعتبر جريمة سياسية وأعتقد أن السلطات ليس عليها فقط السماح لهم بالعودة أو إيقاف الملاحقات بحقهم بل هي مدينة لهم باعتذار جلي وواضح.
أين أصبح حصانك اليوم، وبماذا تحلم اليوم؟
ـ الخيول التي كنت أرسمها في التسعينات هي جزء من حالة ثقافية عامة كانت موجودة في تلك الحقبة شيء كانت تتراكم فيه أشعار نزيه أبو عفش ووجوه نذير إسماعيل وإخراج فواز الساجر وقصص محمد كامل الخطيب وبالتالي كانت مرآة لحقبة ولطموحات جيل، أظن أن الصراخ الاحتجاجي المحسوس في خيولي منذ ثلاثين عاماً يمكن أن يرى اليوم في العيون الفزعة لأسماكي أو في اضطراب غصن على مساحة بيضاء. لم تعد اللوحة اليوم صرخة عالية بل أصبحت صرخة مكتومة. أما عن حلمي، أحلم أن أجد مرسماً في دمشق القديمة يشبه مرسمي الذي كان موجوداً فيها في السبعينات، مرسم أعمل فيه بحرية وأنظر من نافذته فأرى سماء زرقاء ومآذن الجامع الأموي، مرسم يأتي إليه الأصدقاء فندردش ونتحاور ونتبادل الأحلام ونستظل بمظلة الصداقة التي لا تخيب.

المستقبل
الاثنين 23 أيار 2005 -

����
���� ������