٧/٠٧/٢٠٠٥

هنا


مرح البقاعي
*

حيث العيد ظل أرجوحة

تتدلى كأفعى

إلى حافة المساء اللزج

يلفظ الوقت خيباته

وتستقرّ العتمة

إلى حتفها الجليل

هنا


حيث يميع الحلم

في سياق الضجيج

وتنتشي الشهقة

من حمّى انكفائها

أنفي هذياني والمسرّة

لأحترف سَطعة الحدث:

الحدث الذي لاينتمي

الحدث الذي إلى زوال

هنا


حيث يزاحمني غضب وتعب

ويناورني ارتداد

تسقط الرغبة مخصيّة

عن عناقيدها

ويغادرني الصدّيقون والخونة

مارقين بالتاريخ وخبزي-

الذي ارتفع

هنا


حيث أنوس واحدةً

إلى خلل هذا المستقر

حيث لا منابت ترتجى

ولا ثواب

ولانصير

أفقأ عين الأفق المحايد

بإصبع القرار

ثم أنحني...

وبئس المصير

--------

* شاعرة سورية مقيمة في الولايات المتحدة

يوسف عبدلكي وأعماله الجديدة:
موضوعات ليست أقل من تمارين ذكية على قراءة الألم!

نزيه أبو عفش
(سوريا)

عرفت يوسف عبدلكي منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان مجرد هاوي رسم مفتون بقوة الأمل، وكنت مجرد هاوي كلمات ابشر بخيبته. على هذه المائدة الملتبسة التقينا، وعلى طرفيها قامت أجمل ولائم الصداقة.

ومنذ ذلك الحين (رغم جميع الخيبات والمحن والكوارث والإعطاب الروحية التي تخلفها عقائد الاستبداد والمطاردات والسجون) ويوسف عبدلكي ما زال يأمل. يأمل بريشته ويأمل بقلبه، ويواصل رحلته السيزيفية الآملة الى أعالي الهاوية: هاوية الانسان.

روح غير قابلة للهدم: ذلك ما كانه يوسف عبدلكي، وذلك ما سوف يبقاه: إنسان يأمل! وعلى اللقمة المريرة لذلك الأمل الضاري كان يتغذى ويواصل حياكة حلم حياته، بالأسود والأبيض حينا، وبالأسود والأسود حينا، وبإيمان من يكابد ويأمل ويثق.. في جميع الاحيان.

كان بإيمانه وشجاعة أحلامه، وبموهبته قبل كل شيء، أشبه بدودة عزلاء تحفر فضاء حياتها في كتلة هائلة من الغرانيت (وعموما.. ما الذي يفعله الفنانون غير ذلك؟) ولكنه، طوال تلك الرحلة الدودية المضنية في دماغ الصخر الأصم، كان قادرا، بدأب الباحث الشجاع، على حياكة أنبل الأحلام وأكثرها استقامة وعلوا وإثارة لأسئلة الضمير والعقل، وفوق ذلك كله، بل وقبل ذلك كله، استطاع ان يظل مخلصا للسؤال الأشق والأكثر جوهرية وإلحاحا: سؤال الفن: الفن الذي لا يمكن ان يتنازل عنه إلا في حالة واحدة: التنازل عن الشرط الأول في دستور العقيدة الفنية.. اقصد شرط الإيمان.

قلت الإيمان واعني ذلك تماما. ولعل الفارق الجوهري الذي يميز يوسف عبدلكي وأمثاله من عائلة العبدة المؤمنين، عن سواهم من الشغيلة الطارئين على هذه العقيدة، ليس مجرد فارق في المهارة والخيال كما يقول جون برجر، وإنما هو فارق أخلاقي أيضا: انه ـ تماما ـ الفارق الجوهري بين المؤمن الحقيقي وبين المخادع الصغير الذي يتسلل الى المعبد ليتسول صدقات الآلهة.

كان يوسف إذا يراهن على نفسه وطاقاته، إنما يراهن على إيمانه أيضا، وبالتالي على ضرورة ـ بل وحتمية ـ ان يكون الفن هو الغاية التي لا يجوز التفريط بقيمها. ولإدراك هذه الغاية لا يتوقف الفنان (ذو النسب الإيماني) عن ذرف الكثير من الأحلام، والكثير من الغصات والشهوات، والكثير الكثير من آلام العقل والقلب، وعرق مكابداتهما المضنية في الطريق الى الطرف الثاني من الصخرة: طرف الحياة.

فإذن: لا تفريط برسالة الفن أيا كانت المسوغات التي تمليها الضرورات التاريخية على الفنان المشتغل في ميدان الأمل/ميدان الالتباسات الكبرى، والزوغانات الكبرى، والمخاتلات الكبرى: ميدان العمل السياسي. لا تفريط برسالة الفن: بل ـ وهذا ما فرضه يوسف عبدلكي على نفسه منذ البدايات ـ ان على الفنان المشتغل في متاهات ما يسمي بـ الهم العام ان ينتج فنا أكثر فنية، وأكثر رهافة.. وأكثر كمالا أيضا. القيم العظيمة لا تكفر عن خطايا الأداء الركيك. وبالتالي: الفن ليس دار أيتام مفتوحة لرعاية المعاقين من ذوي النوايا الطيبة. الفن حرب أبدية مع الكمال.

الكمال ؟ ما أرعب هذه الكلمة! ما أفظع هذا الطموح!

منذ ذلك الوقت ويوسف عبدلكي يتعارك مع كماله. ينقضه ويعليه. يشك ويوقن. لا يكاد ينتهي من مطاردة حلم (أو مطاردة كابوس) حتي يقلب الخريطة كلها.. ليبدأ من جديد.
ودائما كانت لديه نقطة صفر جديدة ينطلق منها. دائما كان لديه ما يحلمه، ويعيش لأجله. ودائما لديه ما يكفي من زوادة الزاهد، الحكيم، الصارم والمتطلب: عابد الفن.
من المستحيل على أي فنان ان يواصل ـ سنة بعد سنة ومجازفة بعد مجازفة ـ النحت في صخرة أحلامه ويظل جيدا. لكن يوسف عبدلكي استطاع ان يفعل. وعلى أي حال:
ثمة في تاريخ الأحلام ـ تاريخ الفن والشعر والموسيقي وسواها ـ أسماء كثيرة لأناس امتلكوا الشجاعة الفنية نفسها، والشجاعة الروحية نفسها، وشجاعة تقديس قيم الفن نفسها. كثيرون وكثيرون كان الفن الخالص هاجس حياتهم، أو ربما هاجس موتهم (موزار، فان كومخ، رامبو..الخ) كان أصابعهم ـ أصابع أرواحهم ـ قادرة، في اشق الظروف، على حلم ذلك الكمال.. وعلى ملامسته أيضا.

حسنا، اعرف وتعرفون: في الفن (مثلما في الفلسفة والعلوم) استحالة بلوغ الكمال هي الدافع الأكثر إلحاحا لمطارداته والسعي الى إدراكه. على ان يوسف ـ شأنه شأن كثيرين من معاصريه، وممن سبقوه ـ كان في الكثير مما أنجزه يلامس هذا الكمال القاسي ـ كماله الخاص، ثم لا يلبث ان يتجاوزه الى كمال آخر، أي الى أمل آخر، الى كمين إبداعي آخر، أو قل: الى خيبة أخرى.

هي ذي تراجيديا العابد الأصيل: يصل ليعاود البدء. ويبلغ.. ليخيب.

منذ بداياته الأولى ويوسف عبدلكي ـ في مسعاه التعبيري ـ مأخوذ بجوهر رسالته قدر ما هو مأخوذ بصياغتها ودلالاتها البصرية (سمها دلالة السطح). تعنيه الفكرة في كل نأمة وفي كل انحناءة خط، وكل تفصيل قد يبدو ثانويا، لكنه، في كل هذه التدقيقات الصارمة، لا يتنازل لصالح الإنشاء: ان اشتغاله على تفاصيل وهوامش السطح إنما هو اشتغال دؤوب على الجوهر: فتحت قشرة السطح يكمن مغزى البذرة.

البدايات الحقيقية ليوسف كانت مع الأحصنة وأشباهها: الأحصنة الوحوش (كان يسميها: الأحصنة المضادة) ومنذ تجاربه الأولى على هذه الكائنات، النبيلة منها والمتوحشة على حد سواء (لعله كان يفكر في الأحصنة ـ الناس!) استطاع يوسف ـ واضعا الكائن في مواجهة نقيضه ـ ان يبرز أقصى ما يمكن لفنان ان يبرزه من طاقات الشر لدي هذه الكائنات الخنزيرية (الأصح ان نقول: أولئك الرجال الخنزيريين) الذين، بوقارهم وجلافتهم وأنيابهم وربطات أعناقهم ودكنة بياض أحداقهم المشحونة بطاقة الموت، يتحولون الى خليط من بغال وخنازير وآكلات لحوم لها هيئة بشر، بشر حقيقيين ومألوفين، مدرعين بقوة التسلط وشهوة الافتراس وهيبة القبح.
لم يتوقف يوسف عبدلكي يوما واحدا عن العمل على صياغة حياته، حتي جاءت فترة سجنه الممتدة بين عامي 1978 ـ 1980، فكان لا بد من التوقف عن الإنتاج بصورة شبه كلية. انقطع الفنان عن العمل وتفرغ للأحلام. كل ما أنجزه خلال هذين العامين بعض الرسوم الورقية، والملونات الصغيرة إضافة الى منحوتات لـ حمائم ورؤوس أحصنة بالغة الرهافة والصغر كان يعملها من العجين ـ بقايا خبز السجناء.

سنتان وهو يحلم

سنتان وهو يحيك تعاويذ حريته ـ تعاويذ الأمل !

في هذه الفترة التأديبية، حسبما أظن، ظهرت علامات المخاض الأولى لولادة يوسف عبدلكي الثاني: نوبة عطش الى نقض ما تحقق، وأيضا عطش جديد الى محاولة ملامسة السقف. العطش الحقيقي يقود دائما الى مغامرات أخرى وأخرى: إنها شهوة البحث عن الينبوع.

وفي هذه المرحلة تجلت الفوارق الجوهرية لا في مضامين الرسالات بل في اختزالاتها، ودقة رموزها، وتواضع أدوات قولها.

الانتقال لم يكن انقلابا في المغازي بقدر ما كان تبدلا في اللغة، والعلامات، ومفاتيح الأبواب. إنها الفوارق نفسها بين ما يفعله المؤرخ أو المراسل الميداني، وبين ما يمكن ان يفعله شاهد المذبحة الواقف على التل. هو تماما الفارق بين المجلدات التوثيقية المعبأة بالتفاصيل ـ التأريخات، وبين الرسائل المرمزة، المختزلة، المتقشفة، وأيضا:
المشحونة بصرخات الدم.

رقت اللهجة، وخفتت جلبة الصوت، وتقلصت العناصر والتفصيلات: أمام المذبحة ليس من الضروري ان يكثر الشاعر ـ مؤرخ العذاب ـ من الكلام.

وفي هذه الآونة من احتدام المذبحة واحتدام أحلام شهودها، وضحاياها، جاء يوسف عبدلكي الشاعر، يوسف عبدلكي الذي سيكون بوسعه ـ دونما أي ادعاء ـ ان يحول صرخة المعاناة الى قيمة جمال، ويحول مغزى الجمال الى غصة، لكن، أيضا: دونما أي تنازل عما هو جوهري في أساس نص الرسالة. الصرامة التي نفذت بها أعماله الأولى، هي الصرامة نفسها ـ بل وربما أكثر ـ التي تتجلي في الصياغات المرهفة لأعماله المتأخرة: الصرامة الفنية والأخلاقية التي تخفي وراءها الشهوة النبيلة الى ما هو كامل، نقي.. ومتواضع قبل كل شيء. في هذه الفترة الإيمانية بحق، بدأ شغله على ما هو مرذول ومستصغر من العناصر. غاب البشر وحلت الاشياء: الأكثر صغرا وضآلة شأن: أغصان النباتات، الأزهار، القواقع، الأحذية، الخ.. الخ. يرسم الكائنات (وحتى الاشياء) مفصولة عن حياتها، يرسم الحياة المذبوحة، كأنما هو ـ في الجانب الآخر من دماغ الحالم المأخوذ بجاذبية الأمل ـ يؤرخ المذبحة كونية، أزلية وشاملة.

في إلحاحه على هذه العناصر المبتذلة والهامشية، بدأ يوسف عبدلكي وكأنه يعمل على تشخيص الغياب. بالأحرى: استحضار ما هو ـ أو من هو ـ غائب. حذاء المرأة. مثله مثل أي تذكار صغير مهمل في الركن، بقدر ما يضاعف من ألم الغياب، بقدر ما يجعل الغياب حاضرا.. وحيا. القوقعة ـ بعيدا عن المجاز ـ ليست سوي وعاء حياة فارغ من مادة حياته. الأحذية: أوعية أخرى لحياة غائبة، مغيبة، وراسخة في البال وذاكرة القلب.
أعناق الأزهار المفصولة عن أمهاتها ليست اقل من صرخة استغاثة قادمة من جهة الجمال. وعلى الدوام: الانسان حاضر في الاشياء والنباتات والحيوانات ـ حية وميتة، في التفاحة وفردة الحذاء وتويج الوردة الذي ـ في إصراره على التذكير بقوة الحياة ـ يرفض ان يكون مجرد تويج وردة محنط في خزانة الموت.

هنا: الاشياء ليست بصمة غياب الحياة فحسب، بل هي بصمة الحياة أيضا. الاشياء ـ في اعلى درجات موتها ـ مسكونة بالعاطفة، مسكونة بلطافة من تذكر به، وبرأفة (قل:
بحب) من يخضعها لسلطة قلبه وعينيه.

هنا ـ لدي يوسف عبدلكي ـ ما من طبيعة ميتة، ذلك انه إذ يشتغل على ما هو ميت لا يرسم موتا، بل يحول مادة الموت الى مادة حية، قل: الى فكرة.
ان القدرة على إبصار الجمال تكشف الروح المستترة لما هو جامد وميت. إبصار الجمال:
ذلك هو، أيضا، احد شروط العقيدة.. عقيدة الفن.

ان ولع يوسف باستحضار ما هو هامشي يخفي شهوة حقيقية الى الجوهر. لا زوائد، لا بذخ ولا ادعاء ولا عناصر فائضة عن الحاجة. المائدة كلها مقتصرة على ما هو جوهري: لقمة الجمال. كأنه بذلك يتعمد نقض ثقافة استعراض الكرم الذي هو الوجه الآخر للرغبة في إذلال الضيف. العاشق الحقيقي يكتفي بإهداء وردة.

حين يتعلق الأمر بـ اللقمة الجوهرية يغدو كل ما هو فائض مجرد استعراض مفضوح، قل: مجرد خدعة لاستدراج دهشة الضيف. ثمة من يتلذذ بهذه المناورة: البذخ، ناسيا ان الفنان في هذه الحالة يتحول من حامل رسالة الى مجرد مشعوذ.
وإذ يؤكد يوسف على نفي الإضافات والعناصر المجملة، فإنما يؤكد على ما هو جوهري في عقيدة الفنان: ما يعنيه هو البذرة. وهكذا تقلصت العناصر الى مداها الاقصى. غصن وردة لا أكثر. في هذا التفصيل المتواضع تكمن الرسالة كلها. تفصيل؟ بل قل هو الشيفرة. ان كل تفصيل صغير في الحياة هو الحياة كلها. لعل ذلك ما عناه دوستويفسكي في محاولته الإجابة على سؤال الحياة الشائك الكبير: هل سبق لك ان تأملت ورقة نبات؟ .

ورقة النبات هي الصيغة المرمزة لورقة الحياة: هي ـ قراءة ما ـ صيغة الانسان ذاتها. الطريقة التي تصنع بها ورقة النبات هي نفسها الطريقة التي يصنع بها الانسان.
والفارق كله ليس أكثر من بعض التبدلات السرية التي تطرأ على أسلوب الحياة في إبداع نفسها.

ورقة نبات؟ تلك هي صيغة دوستويفسكي في تأويله لمعادلة الحياة. و عبدلكي في أعماله الراهنة يصر على دقة ورجاحة هذا التأويل. ان بوسعه ان يكتفي برسم الهواء ليذكرك بحضور الطائر (أو ربما بغيابه). تقشف أقصى، واختزال أقصى (نتذكر قطعة خبز دالي، وكرسي فان كوخ، وحمامة بيكاسو الخ) كأنه، بتغييبه المتعمد للعناصر، يستحضرها ويؤكد على وجودها الأكثر دراماتيكية وفصاحة. يرسم الحياة كمن يرسم موتا. وإذ يشير الى الموت فكأنه يستحضر صورة الحياة بكاملها.

غصن وردة هنا، ورأس سمكة هناك: تلك هي حيثيات الرسالة كلها. احتفاء بجمال ما هو حي (ما ينتسب الى الحياة) تقابله صرخة احتجاج بالغة الضراوة إزاء ما ليس حيا (بدقة أكثر: ما سلبت حياته منه). لا أكثر من رأس سمكة ليضعك في مواجهة الموت، من عرق نبات عائم فوق ظله يذكرك بكامل صورة الحياة. نعم، الفن ليس خطابا: انه الشيفرة.

في تحول يوسف الى قراءة الأسماك تتجلي رغبته الأكيدة في تعميق الصرخة (لا في التخلي عنها كما يتوهم البعض). ان صناعة الجمال يجب إلا تبعد الصانع عن تحسس الندبة المفتوحة في القلب.. قلب الحياة.

الأسماك، أو سواها، ليست اقل من تمارين ذكية على قراءة الألم. رأس السمكة لدي عبدلكي هو رأس الحياة. وفي اشتغاله على هذا العنصر الزاهد تصل التراجيديا الى أقصاها: اسماك تحلم الحياة عبر أفواهها اليابسة المدورة المفتوحة على هواء الموت. في عين السمكة يمكن قراءة العذاب الاقصى. تقرأ الصيحات المتيبسة في الهواء لأناس هلكوا في مذبحة.. وتبخروا في النسيان.

لكن: لا. لا السمكة ولا الوردة. انه يرسم عذاب الحياة. وفي هذا تكمن القدرة على إبصار الألم.

نواصل القراءة:

رأس سمكة مقطوع (رأس إنسان/رأس الحياة) راقد على منضدة موته، تتصاعد من غلاصمه فقاعات الهواء (فقاعات حياته!). ما من صورة موت اشد ترويعا من صورة هذا الرأس: رأس سمكة يتنفس هواء موته. كأن السمكة إذ تتنفس الموت تتنفس أحلامها فيه. سمكة تحلم الأوكسجين. ميت يحلم الحياة (بوسعنا ان نتذكر عمله ـ الحفر المكرس لتذويب فرج الله الحلو في حوض الاسيد).

هذا العمل ـ الرأس المتنفس ـ ليس مجرد بورتريه لسمكة ميتة. انه بورتريه لشخص الموت ذاته: حاضرا، محسوسا، وأكيدا. لا استطع، إذ انظر الى هذا الرأس، إلا ان أفكر في أعمال المعلمين الكبار عن صلب المسيح، أو رجم المجدلية، أو قذف سان سيباستيان بالسهام، فيما هو ـ في السر وشبه مبتسم ـ يتضرع ان يأتي الموت سريعا وأسرع.. يتبسم ضراعته.

في هذا العمل (الايقوني ان شئت) تتجلي قدرة يوسف على إبصار الألم وقراءته. في هذا تصل الضراعة الى أقصى حدود يأسها.
............................
..........................
وردة مذبوحة. حذاء مهمل. سمكة مشلوحة في الموت. سفاحون. جبابرة. وبشر يحلمون.. تلك هي الشيفرة. ذلك هو الرهان.

رهان على العدالة في مواجهة الفظاعة والتعسف.. وعلى الجمال في مواجهة القبح

وتدهور قيم الروح وعلى الحياة في مواجهة ذابحيها!
رهان خاسر؟!
ومن قال ان الفن يراهن على الفوز؟
الفن ليس إلا صوت أحلامنا الخائبة:
على هذا التعريف الملتبس التقينا منذ ثلاثين.. وأكثر.
شاعر وفنان تشكيلي من سورية

القدس العربي- 2003/10/14

يوسف عبدلكي وأعماله الجديدة:
موضوعات ليست أقل من تمارين ذكية على قراءة الألم!

نزيه أبو عفش
(سوريا)

عرفت يوسف عبدلكي منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان مجرد هاوي رسم مفتون بقوة الأمل، وكنت مجرد هاوي كلمات ابشر بخيبته. على هذه المائدة الملتبسة التقينا، وعلى طرفيها قامت أجمل ولائم الصداقة.

ومنذ ذلك الحين (رغم جميع الخيبات والمحن والكوارث والإعطاب الروحية التي تخلفها عقائد الاستبداد والمطاردات والسجون) ويوسف عبدلكي ما زال يأمل. يأمل بريشته ويأمل بقلبه، ويواصل رحلته السيزيفية الآملة الى أعالي الهاوية: هاوية الانسان.

روح غير قابلة للهدم: ذلك ما كانه يوسف عبدلكي، وذلك ما سوف يبقاه: إنسان يأمل! وعلى اللقمة المريرة لذلك الأمل الضاري كان يتغذى ويواصل حياكة حلم حياته، بالأسود والأبيض حينا، وبالأسود والأسود حينا، وبإيمان من يكابد ويأمل ويثق.. في جميع الاحيان.

كان بإيمانه وشجاعة أحلامه، وبموهبته قبل كل شيء، أشبه بدودة عزلاء تحفر فضاء حياتها في كتلة هائلة من الغرانيت (وعموما.. ما الذي يفعله الفنانون غير ذلك؟) ولكنه، طوال تلك الرحلة الدودية المضنية في دماغ الصخر الأصم، كان قادرا، بدأب الباحث الشجاع، على حياكة أنبل الأحلام وأكثرها استقامة وعلوا وإثارة لأسئلة الضمير والعقل، وفوق ذلك كله، بل وقبل ذلك كله، استطاع ان يظل مخلصا للسؤال الأشق والأكثر جوهرية وإلحاحا: سؤال الفن: الفن الذي لا يمكن ان يتنازل عنه إلا في حالة واحدة: التنازل عن الشرط الأول في دستور العقيدة الفنية.. اقصد شرط الإيمان.

قلت الإيمان واعني ذلك تماما. ولعل الفارق الجوهري الذي يميز يوسف عبدلكي وأمثاله من عائلة العبدة المؤمنين، عن سواهم من الشغيلة الطارئين على هذه العقيدة، ليس مجرد فارق في المهارة والخيال كما يقول جون برجر، وإنما هو فارق أخلاقي أيضا: انه ـ تماما ـ الفارق الجوهري بين المؤمن الحقيقي وبين المخادع الصغير الذي يتسلل الى المعبد ليتسول صدقات الآلهة.

كان يوسف إذا يراهن على نفسه وطاقاته، إنما يراهن على إيمانه أيضا، وبالتالي على ضرورة ـ بل وحتمية ـ ان يكون الفن هو الغاية التي لا يجوز التفريط بقيمها. ولإدراك هذه الغاية لا يتوقف الفنان (ذو النسب الإيماني) عن ذرف الكثير من الأحلام، والكثير من الغصات والشهوات، والكثير الكثير من آلام العقل والقلب، وعرق مكابداتهما المضنية في الطريق الى الطرف الثاني من الصخرة: طرف الحياة.

فإذن: لا تفريط برسالة الفن أيا كانت المسوغات التي تمليها الضرورات التاريخية على الفنان المشتغل في ميدان الأمل/ميدان الالتباسات الكبرى، والزوغانات الكبرى، والمخاتلات الكبرى: ميدان العمل السياسي. لا تفريط برسالة الفن: بل ـ وهذا ما فرضه يوسف عبدلكي على نفسه منذ البدايات ـ ان على الفنان المشتغل في متاهات ما يسمي بـ الهم العام ان ينتج فنا أكثر فنية، وأكثر رهافة.. وأكثر كمالا أيضا. القيم العظيمة لا تكفر عن خطايا الأداء الركيك. وبالتالي: الفن ليس دار أيتام مفتوحة لرعاية المعاقين من ذوي النوايا الطيبة. الفن حرب أبدية مع الكمال.

الكمال ؟ ما أرعب هذه الكلمة! ما أفظع هذا الطموح!

منذ ذلك الوقت ويوسف عبدلكي يتعارك مع كماله. ينقضه ويعليه. يشك ويوقن. لا يكاد ينتهي من مطاردة حلم (أو مطاردة كابوس) حتي يقلب الخريطة كلها.. ليبدأ من جديد.
ودائما كانت لديه نقطة صفر جديدة ينطلق منها. دائما كان لديه ما يحلمه، ويعيش لأجله. ودائما لديه ما يكفي من زوادة الزاهد، الحكيم، الصارم والمتطلب: عابد الفن.
من المستحيل على أي فنان ان يواصل ـ سنة بعد سنة ومجازفة بعد مجازفة ـ النحت في صخرة أحلامه ويظل جيدا. لكن يوسف عبدلكي استطاع ان يفعل. وعلى أي حال:
ثمة في تاريخ الأحلام ـ تاريخ الفن والشعر والموسيقي وسواها ـ أسماء كثيرة لأناس امتلكوا الشجاعة الفنية نفسها، والشجاعة الروحية نفسها، وشجاعة تقديس قيم الفن نفسها. كثيرون وكثيرون كان الفن الخالص هاجس حياتهم، أو ربما هاجس موتهم (موزار، فان كومخ، رامبو..الخ) كان أصابعهم ـ أصابع أرواحهم ـ قادرة، في اشق الظروف، على حلم ذلك الكمال.. وعلى ملامسته أيضا.

حسنا، اعرف وتعرفون: في الفن (مثلما في الفلسفة والعلوم) استحالة بلوغ الكمال هي الدافع الأكثر إلحاحا لمطارداته والسعي الى إدراكه. على ان يوسف ـ شأنه شأن كثيرين من معاصريه، وممن سبقوه ـ كان في الكثير مما أنجزه يلامس هذا الكمال القاسي ـ كماله الخاص، ثم لا يلبث ان يتجاوزه الى كمال آخر، أي الى أمل آخر، الى كمين إبداعي آخر، أو قل: الى خيبة أخرى.

هي ذي تراجيديا العابد الأصيل: يصل ليعاود البدء. ويبلغ.. ليخيب.

منذ بداياته الأولى ويوسف عبدلكي ـ في مسعاه التعبيري ـ مأخوذ بجوهر رسالته قدر ما هو مأخوذ بصياغتها ودلالاتها البصرية (سمها دلالة السطح). تعنيه الفكرة في كل نأمة وفي كل انحناءة خط، وكل تفصيل قد يبدو ثانويا، لكنه، في كل هذه التدقيقات الصارمة، لا يتنازل لصالح الإنشاء: ان اشتغاله على تفاصيل وهوامش السطح إنما هو اشتغال دؤوب على الجوهر: فتحت قشرة السطح يكمن مغزى البذرة.

البدايات الحقيقية ليوسف كانت مع الأحصنة وأشباهها: الأحصنة الوحوش (كان يسميها: الأحصنة المضادة) ومنذ تجاربه الأولى على هذه الكائنات، النبيلة منها والمتوحشة على حد سواء (لعله كان يفكر في الأحصنة ـ الناس!) استطاع يوسف ـ واضعا الكائن في مواجهة نقيضه ـ ان يبرز أقصى ما يمكن لفنان ان يبرزه من طاقات الشر لدي هذه الكائنات الخنزيرية (الأصح ان نقول: أولئك الرجال الخنزيريين) الذين، بوقارهم وجلافتهم وأنيابهم وربطات أعناقهم ودكنة بياض أحداقهم المشحونة بطاقة الموت، يتحولون الى خليط من بغال وخنازير وآكلات لحوم لها هيئة بشر، بشر حقيقيين ومألوفين، مدرعين بقوة التسلط وشهوة الافتراس وهيبة القبح.
لم يتوقف يوسف عبدلكي يوما واحدا عن العمل على صياغة حياته، حتي جاءت فترة سجنه الممتدة بين عامي 1978 ـ 1980، فكان لا بد من التوقف عن الإنتاج بصورة شبه كلية. انقطع الفنان عن العمل وتفرغ للأحلام. كل ما أنجزه خلال هذين العامين بعض الرسوم الورقية، والملونات الصغيرة إضافة الى منحوتات لـ حمائم ورؤوس أحصنة بالغة الرهافة والصغر كان يعملها من العجين ـ بقايا خبز السجناء.

سنتان وهو يحلم

سنتان وهو يحيك تعاويذ حريته ـ تعاويذ الأمل !

في هذه الفترة التأديبية، حسبما أظن، ظهرت علامات المخاض الأولى لولادة يوسف عبدلكي الثاني: نوبة عطش الى نقض ما تحقق، وأيضا عطش جديد الى محاولة ملامسة السقف. العطش الحقيقي يقود دائما الى مغامرات أخرى وأخرى: إنها شهوة البحث عن الينبوع.

وفي هذه المرحلة تجلت الفوارق الجوهرية لا في مضامين الرسالات بل في اختزالاتها، ودقة رموزها، وتواضع أدوات قولها.

الانتقال لم يكن انقلابا في المغازي بقدر ما كان تبدلا في اللغة، والعلامات، ومفاتيح الأبواب. إنها الفوارق نفسها بين ما يفعله المؤرخ أو المراسل الميداني، وبين ما يمكن ان يفعله شاهد المذبحة الواقف على التل. هو تماما الفارق بين المجلدات التوثيقية المعبأة بالتفاصيل ـ التأريخات، وبين الرسائل المرمزة، المختزلة، المتقشفة، وأيضا:
المشحونة بصرخات الدم.

رقت اللهجة، وخفتت جلبة الصوت، وتقلصت العناصر والتفصيلات: أمام المذبحة ليس من الضروري ان يكثر الشاعر ـ مؤرخ العذاب ـ من الكلام.

وفي هذه الآونة من احتدام المذبحة واحتدام أحلام شهودها، وضحاياها، جاء يوسف عبدلكي الشاعر، يوسف عبدلكي الذي سيكون بوسعه ـ دونما أي ادعاء ـ ان يحول صرخة المعاناة الى قيمة جمال، ويحول مغزى الجمال الى غصة، لكن، أيضا: دونما أي تنازل عما هو جوهري في أساس نص الرسالة. الصرامة التي نفذت بها أعماله الأولى، هي الصرامة نفسها ـ بل وربما أكثر ـ التي تتجلي في الصياغات المرهفة لأعماله المتأخرة: الصرامة الفنية والأخلاقية التي تخفي وراءها الشهوة النبيلة الى ما هو كامل، نقي.. ومتواضع قبل كل شيء. في هذه الفترة الإيمانية بحق، بدأ شغله على ما هو مرذول ومستصغر من العناصر. غاب البشر وحلت الاشياء: الأكثر صغرا وضآلة شأن: أغصان النباتات، الأزهار، القواقع، الأحذية، الخ.. الخ. يرسم الكائنات (وحتى الاشياء) مفصولة عن حياتها، يرسم الحياة المذبوحة، كأنما هو ـ في الجانب الآخر من دماغ الحالم المأخوذ بجاذبية الأمل ـ يؤرخ المذبحة كونية، أزلية وشاملة.

في إلحاحه على هذه العناصر المبتذلة والهامشية، بدأ يوسف عبدلكي وكأنه يعمل على تشخيص الغياب. بالأحرى: استحضار ما هو ـ أو من هو ـ غائب. حذاء المرأة. مثله مثل أي تذكار صغير مهمل في الركن، بقدر ما يضاعف من ألم الغياب، بقدر ما يجعل الغياب حاضرا.. وحيا. القوقعة ـ بعيدا عن المجاز ـ ليست سوي وعاء حياة فارغ من مادة حياته. الأحذية: أوعية أخرى لحياة غائبة، مغيبة، وراسخة في البال وذاكرة القلب.
أعناق الأزهار المفصولة عن أمهاتها ليست اقل من صرخة استغاثة قادمة من جهة الجمال. وعلى الدوام: الانسان حاضر في الاشياء والنباتات والحيوانات ـ حية وميتة، في التفاحة وفردة الحذاء وتويج الوردة الذي ـ في إصراره على التذكير بقوة الحياة ـ يرفض ان يكون مجرد تويج وردة محنط في خزانة الموت.

هنا: الاشياء ليست بصمة غياب الحياة فحسب، بل هي بصمة الحياة أيضا. الاشياء ـ في اعلى درجات موتها ـ مسكونة بالعاطفة، مسكونة بلطافة من تذكر به، وبرأفة (قل:
بحب) من يخضعها لسلطة قلبه وعينيه.

هنا ـ لدي يوسف عبدلكي ـ ما من طبيعة ميتة، ذلك انه إذ يشتغل على ما هو ميت لا يرسم موتا، بل يحول مادة الموت الى مادة حية، قل: الى فكرة.
ان القدرة على إبصار الجمال تكشف الروح المستترة لما هو جامد وميت. إبصار الجمال:
ذلك هو، أيضا، احد شروط العقيدة.. عقيدة الفن.

ان ولع يوسف باستحضار ما هو هامشي يخفي شهوة حقيقية الى الجوهر. لا زوائد، لا بذخ ولا ادعاء ولا عناصر فائضة عن الحاجة. المائدة كلها مقتصرة على ما هو جوهري: لقمة الجمال. كأنه بذلك يتعمد نقض ثقافة استعراض الكرم الذي هو الوجه الآخر للرغبة في إذلال الضيف. العاشق الحقيقي يكتفي بإهداء وردة.

حين يتعلق الأمر بـ اللقمة الجوهرية يغدو كل ما هو فائض مجرد استعراض مفضوح، قل: مجرد خدعة لاستدراج دهشة الضيف. ثمة من يتلذذ بهذه المناورة: البذخ، ناسيا ان الفنان في هذه الحالة يتحول من حامل رسالة الى مجرد مشعوذ.
وإذ يؤكد يوسف على نفي الإضافات والعناصر المجملة، فإنما يؤكد على ما هو جوهري في عقيدة الفنان: ما يعنيه هو البذرة. وهكذا تقلصت العناصر الى مداها الاقصى. غصن وردة لا أكثر. في هذا التفصيل المتواضع تكمن الرسالة كلها. تفصيل؟ بل قل هو الشيفرة. ان كل تفصيل صغير في الحياة هو الحياة كلها. لعل ذلك ما عناه دوستويفسكي في محاولته الإجابة على سؤال الحياة الشائك الكبير: هل سبق لك ان تأملت ورقة نبات؟ .

ورقة النبات هي الصيغة المرمزة لورقة الحياة: هي ـ قراءة ما ـ صيغة الانسان ذاتها. الطريقة التي تصنع بها ورقة النبات هي نفسها الطريقة التي يصنع بها الانسان.
والفارق كله ليس أكثر من بعض التبدلات السرية التي تطرأ على أسلوب الحياة في إبداع نفسها.

ورقة نبات؟ تلك هي صيغة دوستويفسكي في تأويله لمعادلة الحياة. و عبدلكي في أعماله الراهنة يصر على دقة ورجاحة هذا التأويل. ان بوسعه ان يكتفي برسم الهواء ليذكرك بحضور الطائر (أو ربما بغيابه). تقشف أقصى، واختزال أقصى (نتذكر قطعة خبز دالي، وكرسي فان كوخ، وحمامة بيكاسو الخ) كأنه، بتغييبه المتعمد للعناصر، يستحضرها ويؤكد على وجودها الأكثر دراماتيكية وفصاحة. يرسم الحياة كمن يرسم موتا. وإذ يشير الى الموت فكأنه يستحضر صورة الحياة بكاملها.

غصن وردة هنا، ورأس سمكة هناك: تلك هي حيثيات الرسالة كلها. احتفاء بجمال ما هو حي (ما ينتسب الى الحياة) تقابله صرخة احتجاج بالغة الضراوة إزاء ما ليس حيا (بدقة أكثر: ما سلبت حياته منه). لا أكثر من رأس سمكة ليضعك في مواجهة الموت، من عرق نبات عائم فوق ظله يذكرك بكامل صورة الحياة. نعم، الفن ليس خطابا: انه الشيفرة.

في تحول يوسف الى قراءة الأسماك تتجلي رغبته الأكيدة في تعميق الصرخة (لا في التخلي عنها كما يتوهم البعض). ان صناعة الجمال يجب إلا تبعد الصانع عن تحسس الندبة المفتوحة في القلب.. قلب الحياة.

الأسماك، أو سواها، ليست اقل من تمارين ذكية على قراءة الألم. رأس السمكة لدي عبدلكي هو رأس الحياة. وفي اشتغاله على هذا العنصر الزاهد تصل التراجيديا الى أقصاها: اسماك تحلم الحياة عبر أفواهها اليابسة المدورة المفتوحة على هواء الموت. في عين السمكة يمكن قراءة العذاب الاقصى. تقرأ الصيحات المتيبسة في الهواء لأناس هلكوا في مذبحة.. وتبخروا في النسيان.

لكن: لا. لا السمكة ولا الوردة. انه يرسم عذاب الحياة. وفي هذا تكمن القدرة على إبصار الألم.

نواصل القراءة:

رأس سمكة مقطوع (رأس إنسان/رأس الحياة) راقد على منضدة موته، تتصاعد من غلاصمه فقاعات الهواء (فقاعات حياته!). ما من صورة موت اشد ترويعا من صورة هذا الرأس: رأس سمكة يتنفس هواء موته. كأن السمكة إذ تتنفس الموت تتنفس أحلامها فيه. سمكة تحلم الأوكسجين. ميت يحلم الحياة (بوسعنا ان نتذكر عمله ـ الحفر المكرس لتذويب فرج الله الحلو في حوض الاسيد).

هذا العمل ـ الرأس المتنفس ـ ليس مجرد بورتريه لسمكة ميتة. انه بورتريه لشخص الموت ذاته: حاضرا، محسوسا، وأكيدا. لا استطع، إذ انظر الى هذا الرأس، إلا ان أفكر في أعمال المعلمين الكبار عن صلب المسيح، أو رجم المجدلية، أو قذف سان سيباستيان بالسهام، فيما هو ـ في السر وشبه مبتسم ـ يتضرع ان يأتي الموت سريعا وأسرع.. يتبسم ضراعته.

في هذا العمل (الايقوني ان شئت) تتجلي قدرة يوسف على إبصار الألم وقراءته. في هذا تصل الضراعة الى أقصى حدود يأسها.
............................
..........................
وردة مذبوحة. حذاء مهمل. سمكة مشلوحة في الموت. سفاحون. جبابرة. وبشر يحلمون.. تلك هي الشيفرة. ذلك هو الرهان.

رهان على العدالة في مواجهة الفظاعة والتعسف.. وعلى الجمال في مواجهة القبح

وتدهور قيم الروح وعلى الحياة في مواجهة ذابحيها!
رهان خاسر؟!
ومن قال ان الفن يراهن على الفوز؟
الفن ليس إلا صوت أحلامنا الخائبة:
على هذا التعريف الملتبس التقينا منذ ثلاثين.. وأكثر.
شاعر وفنان تشكيلي من سورية

القدس العربي- 2003/10/14

مَن لا يَظهَرُ في الصُّورة

رفعت مصري - منذر مصري

سوريا

1- أرتدي مِعطفي فالوَقتُ قَد حان


وإن بكيتُكَ قَليلاً
فَما زِلتَ على مَرمَى النَّظَر .
/
أنتَظِرُكَ
كما لم أفعل في أيِّةِ ليلةٍ مِن قَبل
وأعلَمُ أنَّكَ اللَّيلَةَ أيضاً
سوفَ تأتي
وسوفَ أُمَثِّلُ عليكَ
بِأنِّي لستُ نعِساً البتَّةَ
ولستُ مُنزعِجاً مِن حُضورِكَ .
/
ثلاثُ ساعاتٍ سوف تَمضي
لا يُعكِّرُ صَفوَها
سِوى بعضِ القَرقعاتِ الَّتي أُصدِرُها مِن المطبَخ
وأنا أُعِدُّ لكَ شيئاً تَزدَردُه
لأنَّهُ لا شَيءَ لَدَيَّ لأقولَهُ لكَ
سِوى ما قُلتُهُ مِراراً وتَكراراً
حتَّى سئِمتَ سَماعَه
ولا شَيءَ لَديكَ لتقولَهُ لي
لأنَّكَ تعرِفُ أنِّي لا أُبالي .
/
أرتَدي مِعطَفي فالوَقتُ قَد حان
لأُوصِلَكَ إلى بَيتِكَ
خَشيَةَ أن تَضيعَ
أو يَغلِبَكَ النُّعاسُ على الطَّريق
فَتَنامُ في أحدِ مَداخلِ الأبنية
مَن مِنَّا لم يفعل ذلك
مَن مِنَّا
في نِهايةِ إحدى سَهراتِكِ الطَّويلةِ عِندَه
لم ‌يحملكَ على ظَهره
قَرُبَ بيتُهُ مِن بيتِكَ أو بَعُدَ
لكنَّكَ خذلتَنا جميعاً
فقد كُنَّا نلتَفُّ حولَكَ
لِنَمنَعَ عَنكَ الهواءَ البارِد
ولَكِنَّكَ كُنتَ شخصاً آخَرَ
يَجمَعُنا لِنَدفَأ .
/
أو لِنَحتفلَ بمناسبةِ أعيادٍ
لا يتَذَكَّرُها أحدٌ في العالَمِ سواكَ
أو سَهراتٍ مَفتوحَةٍ على كُلِّ الاحتِمالات
كُنتَ تَقضيها كاملةً
وأنتَ تَقِفُ وَحيداً عَلى النَّافِذَةِ
بانتِظارِ أيٍّ مِنّا
وقَد أعدَدتَ كُلَّ مايَلزَم .
/
كان عليكَ المزيدُ مِنَ الانتظار
رُبَّما كان يكفينا سنتانِ أو ثلاث
لِماذا السُّرعَة
لِنَشرَبَ كلَّ ما بَقيَ لديكَ مِن خمرةٍ رديئة
في قعرِ الزَّجاجات
ونرفعَ كلَّ ما تخترِعُ من أنخاب
ولا نُفَوِّتَ فُرصَةَ وَداعٍ سَعيدٍ
لِصَديق
مَهما كَثُرَت مَشاغِلُنا
ومَهما بلغت درجةُ معزَّته
ثُمَّ نَرحَلَ سَوِيَّةً
دونَ الحاجَةِ
أن ينظُرَ أحَدُنا خَلفَه
ليَتفَقَّدَ الآخَر ..
ـــــــــــ


2- في أيِّ مَنامٍ أو قِصَّةٍ أو فيلم


فادي هو مَن جاءَ مُبكِراً
على غَيرِ عادَتِه
وغسَّان ووَسيم وزياد ودانيال وحُسام
جاؤوا جَميعاً بِغير مَوعِدٍ
أمَّا خَلدون فَعَلى غَيرِ عادَتِهِ
غاب .
/
تَوَجَّهنا جَميعُنا باتِّفاقٍ ضِمني
إلى آخِرِ طَّاوِلَةٍ جلَسنا عَليها مَعاً
في ذَلِكَ المَقهى عَلى البَّحر
قُربَ مَصَبِّ المَجرورِ الرَّئيسي للكورنيش الجنوبي
ولم يَكُن قَد اِنقضى على هَذا أُسبوعٌ
( الأَزمَةُ قَد مَرَّت )
قالَ فادي مُلَمِّحاً إلى غِِيابِ خَلدون
ولم أرغَب أن أعرِف
عَن أيِّ أَزَمَةٍ يَتَكلَّم .
/
لأوَّلِ مَرَّةٍ أنتَ مَن لم يَحضُر
ورَغمَ أنَّها تَكادُ تَبدو
مُفارَقةً فِي الكَلام
ولَكِنَّ ما أَبكانا واحِداً واحِداً
أنَّكَ حَقَّاً
لم تَكُن حاضِراً في حَياتكَ
كَما أنتَ اليوم .
/
كان كُلُّ ما يُقالُ يدورُ حولّكَ
وهذه المرة نحن مَن مَسحنا
بأكُفِّنا المرتجِفة
دُموعَنا التي ساحت على الطّاولة
غَفرنا لَكَ كُلَّ شيء
ولكننا لم نستطع أن نخفِ استياءنا الشَّديد
كيف اتّفق لك أن متَّ
ولم تستأذن أحَداً منَّا .
/
حَلَّقتَ مَرَّات
كَمُحاولاتٍ مُتَكَرِِّرة لِفَهمِ الحُبّ
ولإيجادِ أعذارٍ لنساءٍ شحيحاتٍ
لا يملِكن أكثرَ من أحلامٍ مجَّانيَّة
فَقَد كانَ يَستَعصي عَلى فَهمِكِ
أنَّ لُكلِّ شَيءٍ ثَمن
وبِدَورِه لم يَكُن تَحليقُكَ الأخيرُ ناجِحاً
سِوى أنَّهُ بالمُقارَنَةِ مَع كُلِّ المُحاولاتِ السَّابِقَة
كانَ الأَتَم
وما عُدتَ تَحتاجُ
تَحليقاً آخَرَ .
/
قالَ فادي : ( مُحَمَّد لم يَمُت
فَقَط ذَهَبَ إلى مَكانٍ ما
ولم يَكتُب عَلى بابِ دُكانِهِ
بِأنَّهُ سَيَعُودُ بعد قليلٍ )
وعَلِمنا أنَّكَ تَزَوجتَ وأنجَبتَ أطفالاً
غامِقي الجِلدِ وشَديدِي النُّحول
مِمَّا لا يَدَعُ مَجالاً لِلشَكَّ
بِأنَّكَ الأَبّ
ولا لأَن نَلتَفِتَ لِنَرى
ما إذا كانَ الأمرُ صَحيحاً أم لا
أقصُدُ البابَ واليافِطَةَ والأطفالَ
لأنَّنا .. دونَ أي تَرَدُّدٍ
صَدَّقناهُ
ولم يَكُن هُناكَ حاجَةٌ لنَتَذَكَّرَ
أين حصلَ هَذا
في أي مَنام
أو قِصَّةٍ
أو فيلم ..
ـــــــــــ


3- لم يَبق منهُ سِوى نحنُ


ماتَ ولم يُصَدِّق
واقِفاًً يَسرُدُ النُّكات
مُنتَظِراً أحداً أن يَضحَكَ .
/
ماتَ ولم يُصَدِّق
فَما زالَ بانتِظارِنا حَتَّى آخِرِ اللَّيل
بَعدَ أن تَنفُدَ مِنَّا
المَواعيدُ والسَّهرات .
/
ماتَ ولم يُصَدِّق
وها هوَ يفرِشُ على الأرض
( بابا نَويل ) موديل السَّنَةِ الجَديدَة
قائلاً إنَّه لم يَنزِل
إلى السُّوقِ بَعد .
/
ماتَ ولم يُصَدِّق
يَتَّصِلُ لِيطمَئنَّ عَليَّ
مِن مُجَرَّدِ سَماعِهِ رَنَّةَ صَوتي
أو ليُبَشِّرَني بِقُدومِ صَديقٍ بالكادِ أعرِفُه
أو أنَّ هُناكَ حَفلَةً ساهِرَةً اليَومَ مَساءً
- أين ؟
- عِنَدَهُ في البَيتِ
أو رَحلَةً يَعتََزِمُ تَدبيرَها غَداً أو بَعدَ غَدّ
حيثُ نَظهَرُ في الصُّورِ جَميعُنا
فُرادىً وأزواجاً وجَماعات
ما عَداه
فَهو مَن يَلتَقِطُ الصُّور .
/
ماتَ ولم يَبق مِنهُ سِوى
نَحنُ
وثِيابٍ لا تَصلُحُ
حَتَّى لأُخوَتِه ..

اللاذقية/ من مجموعة قيد النشر بعنوان:
( دعوة عامة لشخص واحد )
لمنذر مصري وشركاه .

����
���� ������